السبت، 20 ديسمبر 2014

المستشرقون والفقه الاسلامي

إشراف : د. خالد القاسم


إعداد: مريم الشايع




المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله الإ الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد :
إن الفقه الإسلامي جامعة ورابطة للأمة الإسلامية ، وهو جزء لا يتجزأ من تاريخ حياة الأمة الإسلامية في أقطار المعمورة، وهو مفخرة من مفاخرها العظيمة، ومن خصائصها لم يكن مثله لأي أمة قبلها، إذ هو فقه عام مبين لحقوق المجتمع الإسلامي بل البشري, وبه كمل نظام العالم، فهو جامع للمصالح الدينية و الاجتماعية والأخلاقية, وهو بهذه المثابة لم يكن لأي أمة من الأمم السالفة, ، فإن فقهنا بيَّنَ الأحوال الشخصية التي بين العبد وربه ، وبين الناس بعضهم البعض.[1]
فالفقه الإسلامي نظام عام للمجتمع البشري لا الإسلامي فقط، تام الأحكام لم يدع شاذة ولا فاذة، وهو القانون الأساسي لدول الإسلام والأمة الإسلامية جمعاء، وإن انتظام أمر دول الإسلام في الصدر الأول وبلوغها غاية لم تدرك بعدها في العدل والنظام لدليل واضح على ما كان عليه الفقه من الانتظام وصراحة النصوص وصيانة الحقوق ونزاهة القائمين بتنفيذ أوامر.. وما دخلت الأمم الكثيرة في الإسلام أفواجًا, واتسعت دائرة الإسلام, فانتشرت الأمة الإسلامية ..من نهر الفانج في الهند شرقًا, إلى أفريقيا, ثم إلى أواسط أوروبا في زمن قليل إلّا باحترام الحقوق, والعلم بقواعد الفقه الإسلامي, والتسوية بين جميع أجناس البشر التي كانت تحضنها في العدل, وجمع شتات مكارم الأخلاق ومحاسن المعتقدات، وهذه التواريخ العربية وغيرها لم ينتقد واحد منها نظام العرب الذي كانوا عليه, بل مدحوه بما لم يمدحوا به غيره, واقتبسوا منه, واختارته الأمم على ما كان من الأنظمة, فانصرفت عنها إليه, وثلث عروش ملوكها من أجله.
ثم لما نهضت أوربا نهضتها المعروفة للرقي العصري, فأول حجر وضعته في أساس مدنيتها الزاهرة هو العدل وسن القوانين بالتسوية في الحقوق؛ إذ لا يعقل أن تترقَّى أمة وحقوقها مهضومة وأفرادها مظلومة, والكل يعلم أن بعض قوانينها مقتبسة من الفقه الإسلامي؛ كقانون نابليون الأول وغيره من ملوك أوروبا، فالفقه الإسلامي أصل التمدن العصري الحديث, والفضل كل الفضل في احترام الحقوق وصيانتها وتشييد منارها للإسلام والفقه الإسلامي. ومن مكارم الفقه الإسلامي, بل من معجزاته, أنه تمَّ نظامه وجمعه في مدة نحو عشر سنين كما يأتي في الطور الأول, فلم ينتقل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الدار الآخرة حتى تركه تامّ الأصول، ولم يمض على الأمة قرن ونصف حتى ألفت تآليف مهمة في فروعه، وبسط أحكامه وتطبيق أصوله على فروعه, وهذا لم يكن للأمم قبلنا.[2]
وكان هذا ولا شك مثار للحقد والضغينة في نفوس أعداء الاسلام .. فأجلبوا بخيلهم ورجلهم بأنواع الحرب المعنوية والفكرية والدينية لعلها – بعد أن خسرت في حربها العسكرية ضد اراسلام – أن تنال منه ولو فكريا ولو أن تشوهه في نفوس أهله ، ومن أراد الدخول فيه..وممن سلك هذه السبيل ثلة من المستشرقين الحاقدين أو الجاهلين بالمنهجية العلمية الصحيحة.
وفي هذا الورقات بحثت في شبهة رددها بعض المستشرقين حول الفقه الاسلامي وعدم أصالته، وأنه مستمد من الحضارات قبله..مع الرد عليها.
وقد قسمت البحث إلى مقدمة وتمهيد ومبحثين وخاتمة وفهرس،على النحو التالي:
-مقدمة: بينت فيها أهمية الفقه ومكانته عند المسلمين وخطة البحث.
-تمهيد: وفيه: 1-تعريف الفقه لغة واصطلاحا 2-أمثلة لبعض المستشرقين ممن قال بهذه الشبهة.
-المبحث الأول :مراحل تدوين الفقه، وفيه أربعة مطالب:
1/الطور الأول للفقه. 2/ الطور االثاني للفقه .3/ الطورالثالث للفقه. 4/ الطور الرابع للفقه.
-المبحث الثاني: شبهات المستشرقين حول الفقه الاسلامي والرد عليها، وفيه مطلبان:
1/ الشبهة الأولى والرد عليها       2/الشبهة الثانية والرد عليها
-الخاتمة: بينت فيها أهم أسباب إثارة هذه الشبه.
-فهرس بأهم المراجع.
أسأل الله أن ينفع به كاتبه وقارئه، والحمد لله رب العالمين.


التمهيد:
أولاً : معنى الفقه :
أ/ في اللغة: الفقه لغة: هو مصدر من فقه بكسر عين الفعل في الماضي يفقه بفتح عينه في المضارع، وفيه لغة أخرى هي فقه بالضم في الماضي والمضارع وهي تشير إلى رسوخ ملكة الفقه في النفس حتى تصير كالطبع والسجية.[3]
ويقول بن فارس: "فقه الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح يدل على إدراك الشيء والعلم به، تقول فقهت الحديث أفقهه، وكل علم بشيء فهو فقه، يقولون لا يفقه ولا ينقه، ثم اختص بذلك علم الشريعة فقيل لكل عالم بالحلال والحرام فقيه، وأفقهتك الشيء إذا بينته لك"[4]
ب/ اصطلاحاً : معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الَّتِي طريقها الِاجْتِهَاد من أدلتها التفصيلية.[5]

ثانياً : أمثلة لبعض المستشرقين ممن قال بهذه الشبهة:
(للمستشرقين دراساتُهم في الفقه الإسلامي من ناحية أحكام الشريعة الإسلامية ومصادرها، وتطور الدراسات الفقهية عند المسلمين.
ودراسة الفقه تعطي المستشرقين الفرصةَ لفهمٍ أعمق للمجتمعات الإسلامية قديمًا وحديثًا؛ فهم يَدرُسون الأحكام الإسلامية في العبادات والمعاملات في التشريعات الاجتماعية، وفي الفكر السياسي، وقد حاول المستشرقون - من خلال هذه الدراسات - التأثير في حياة الأمة الإسلامية، بالزعم بعدم أصالة الفقه الإسلامي، وأنه مأخوذ من التشريعات الرومانية، والفارسية، والهندية، وغيرها، ثم زعموا تطوُّر التشريعات الإسلامية؛ ليصلوا من ذلك إلى أن يستمرَّ المسلمون في تطوير التشريعات ليأخذوا من التشريعات الأوروبية الحديثة.
ومن أبرز المستشرقين الذين كتبوا في الفقه المستشرق: "جوزيف شاخت" ، ومن المعروف أن (جوزيف شاخت) حاول أن يأتِي بنظرية جديدة حول أسس الفقه الإسلامي، ونشر لبيانِها عدَّةَ كتب ومقالات بالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، ووضع كتاب (المدخل إلى الفقه الإسلامي) لهذا الغرض، وإن كان كتابُه: (أصول الشريعة المحمدية) يعدُّ من أشهر مؤلفاته على الإطلاق، كما عبَّر عنه المستشرق "جب" بأنه (سيصبح أساسًا في المستقبل لكل دراسةٍ عن حضارة الإسلام وشريعته، على الأقل في العالم الغربي)، وقد أثَّرت نظريات (شاخت) تأثيرًا بالغًا على جميع المستشرقين تقريبًا؛ مثل: (أندرسون)، و(روبسون)، و(فيتزجرالد)، و(كولسون)، و(بوزورث)؛ كما أن لهذه النظريات تأثيرًا عميقًا على مَن تثقفوا بالثقافات الغربية من المسلمين.
وقد ناظر الدكتور "محمد مصطفى الأعظمي" المستشرقَ "شاخت" في بحث بعنوان: (المستشرق شاخت والسنة النبوية)، ساهم به في كتاب: (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية) ، قائلاً: إن كتاب شاخت يحاول أن يقلع جذور الشريعة الإسلامية، ويقضي على تاريخ التشريع الإسلامي قضاءً تامًّا... فهو يزعم أنه "في الجزء الأكبر من القرن الأول لم يكن للفقه الإسلامي - في معناه الاصطلاحي - وجودٌ كما كان في عهد النبي، والقانون - أي الشريعة - من حيث هي هكذا كانت تقعُ خارجةً عن نطاق الدين، وما لم يكن هناك اعتراض ديني أو معنوي روحي على تعامل خاصٍّ في السلوك؛ فقد كانت مسألة القانون تمثِّل عملية لامبالاة بالنسبة للمسلمين؛ حيث صرَّح "شاخت" بأنه (من الصعوبة اعتبار حديثٍ ما من الأحاديث الفقهية صحيحًا بالنسبة إلى النبي).[6]
وممن تحدث في شبهة عدم أصالة الفقه الاسلامي:جولد زيهر فأول أبحاثه الخطيرة ،بحثه  في المسائل الاسلامية كتابه عن : (الظاهريه: مذهبهم وتاريخهم) لايقتصر فيه على المذهب الظاهري ، وانما يتكلم عن أصول المذاهب الفقهية المختلفة دراسة تفصيلية،وبين الاجماع والاختلاف بين أئمة المذاهب ، وعن الصلة والفرق بين هذه المذاهب والمذهب الظاهري، فيعطي لنا نظرة شاملة عن جوهر الفقه بعامة.
كذلك بحث ألقاه في المؤتمر الدولي الأول للأديان الذي انعقد في باريس عام 1900م، وكان بحثه بعنوان (الإسلام والدين البارسي) وفيه يزعم جولدزيهر عما كان لدين دولة الأكاسرة  من تأثير في الاسلام في عهده الاول.[7]

المبحث الأول: مراحل تدوين الفقه
المطلب الأول: الطور الأول للفقه
وذلك من أول بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى وفاته, وكانت البعثة النبوية سنة "610" عشر وستمائة تقريبًا من ميلاد المسيح -عليه السلام, أي: قبل تاريخ الهجرة بنحو ثلاث عشرة سنة, وكانت الوفاة النبوية سنة إحدى عشرة "11" في ربيع الأول النبوي, غير أن ثلاث سنوات أولى من البعثة كانت فترة الوحي بعدما نزل أول آية من القرآن وهي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} , وكان نزولها في "17" رمضان من عام البعثة في غار حراء الذي كان -صلى الله عليه وسلم- يتعبد فيه بمكة قبل البعثة, ثم بعد الثلاث سنين تتابع نزول القرآن وتشريع الشريعة، ولكن جلّ ما نزل بمكة قبل الهجرة في مدة نحو عشرة سنين تليها, كان في التوحيد وردّ العقائد الفاسدة وأخبار تاريخ من مضى من الأمم، ورد عقيدة الوثنية، وبث مكارم الأخلاق مع قليل من الأحكام الفقهية الفرعية، فكانت السور المكية حاوية لمباحث الإيمان وهي أصول الدين، ولمباحث الأخلاق والتهذيب وأخبار الأمم الماضية، ترهيبًا وزجرًا ووعظًا وتذكيرًا، إذ كان المقصود إدخال الناس في الدين ونبذ أصل الوثنية، وبعد دخول الناس في الدين وتضييق كفار مكة بهم إذ كانوا قليلين أمروا بالهجرة ليأمنوا على دينهم وأنفسهم.
فبعد الهجرة ووجود من يخاطب بالأحكام الفرعية صارت تنزل أحكام الحلال والحرام في العبادات والمعاملات وغيرها، وهي مباحث علم الفقه, فجل الفقه الإسلامي تكون في مدة عشرة سنين بعد الهجرة إلى وفاة النبي-صلى الله عليه وسلم-، ولذلك تجد أحكامه مبينة في السور المدنية.[8]
ومادة الفقه الإسلامي أمور أربعة:أحدها: كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
الثاني: سنة نبيه -عليه السلام, الذي قرن طاعته بطاعته وأمرنا باتباع سنته، فقال -عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [9] وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [10]، والثالث: الإجماع الذي دلَّ تعالى على صحته بقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[11]
لأنه تعالى توعَّد على اتباع غير سبيل المؤمنين, فكان ذلك أمرًا واجبًا باتباع سبيلهم، وقال -صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"[12]
الرابع: الاستنباط: وهو القياس على هذه الأصول الثلاثة التي هي الكتاب والسنة والإجماع؛ لأن الله جعل المستنبط من ذلك علمًا, وأوجب الحكم به فرضًا، فقال -عز وجل: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [13]، وقال -عز وجل: {إنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}[14].[15]

المطلب الثاني: الطورالثاني للفقه
وذلك بعد الوفاة مدة قرنين إلى آخر القرن الثاني، إذ أصوله كملت في الزمن النبوي وكثير من فروعه, ولم يبق إلّا التفريع والاستنباط بالاجتهاد المطلق ثم المقيد قبل شيوع التقليد في العلماء.
وفي هذا العصر امتدَّ الإسلام وكثرت الفتوح، واتسعت المملكة الإسلامية من الهند إلى الأندلس, واختلطت بأمم كثيرة دخلت فيه أفواجًا كفارس والروم، ودخلت الحضارة والرفه الفارسي والرومي للعرب، فكثرت النوازل، وظهر الفقهاء المفتون والقضاة العادلون, فصار للفقه مكان واعتبار؛ إذ فتحت الأقطار ومصِّرت الأمصار واتسعت بالإسلام الديار، عصر التمدن العربي والتقدم الإسلامي، فنزلت النوازل وظهرت جزئيات النصوص التي كانت كامنة بين العموم والخصوص، فاجتهد الفقهاء واستنبطوا الآراء وأسَّسوا المبادئ وقعَّدوا وأطلقوا.
ورووا السنن وفسَّروا القرآن الكريم فعمَّموا وخصَّصوا وقيَّدوا وأطلقوا.
واستعانوا عليه بالآثار فجمعوها وفحصوها, وانقتدوا ما انتقدوا منها, وبينوا ما يصلح للدلالة وما فيها قادح، ومارسوا كيفية اندراج الجزئي في الكلي, والخاص تحت العام، وقاسوا لنظيره والشبيه على شبيهه، وصيروا هذه الأصول علومًا وصناعات تحتاج لمزيد الممارسات، لتنضبط بذلك الفقه وينتظم أمر الاجتهاد الذي يتوقّف عليه تقدم الأمة وصون حقوقها. ففي هذه العصر أصبح الفقه علمًا عظيمًا وكنزًا مهمًّا جسيمًا, فامتدت فروعه وتنوعت أبوابه وفصوله ونضج واستوى, وألفت فيه مصنفات عظام يفتخر بها الإسلام, جامعة بين الفرع وأصلها, وافية بالمقصود كله في مدة لا تبلغ قرنين.
وزمن الصحابة الذي هو نحو مائة سنة من لدن وفاته -صلى الله عليه وسلم, إلى آخر القرن الأول،و بوفاة معاوية انقرضت الخلافة من الصحابة -رضي الله عنهم, وأصبحت في التابعين، أما ابن الزبير الذي تولّى بعده في مكة والعراق ومصر فإنه لم تتمّ له الخلافة مع قصر مدته, وكونه من صغار الصحابة المتقاربين في الرواية مع كبار التابعين؛ إذ جلّ مروياتهم عن الصحابة الكبار.
و عصر الصحابة عصران: عصر الخلفاء، وهو ثلاثون سنة من ولاية أبي بكر إلى تنازل الحسن بن علي لمعاوية، والعصر الثاني عصر معاوية وبني أمية إلى آخر المائة الأولى.[16]
كان أبو بكر إذا نزلت به نازلة ولم يجدها في صريح كتاب الله أو سنة رسول الله جمع الفقهاء واستشارهم، روى أبو عبيد2، في كتاب "القضاء" عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله, فإن وجد فيه شيئًا قضى بها وإلا, فإن علم شيئًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى به, فإن أعياه خرج فسأل المسلمين هل علمتم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكرون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علم نبينا. فإن أعياه جمع رءوس الناس وخيارهم واستشارهم, فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به، وكان عمر يفعل ذلك, فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة يسأل: هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء، فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به وإلا جمع علماء الناس واستشارهم, فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به.[17]

المطلب الثالث: الطور الثالث للفقه
من مبدأ المائة الثالثة إلى منتهى الرابعة، إذ وقف في قوته، ولم يزد قوة، ومال إلى القهقرى، ولكن لم يسرع إليه الهرم، ولا وصل إلى طور الانحلال، بل حفظ قوته الأصلية زمن قرنين بسبب ما ظهر فيه من الحفاظ، والمجتهدين الكبار، والتآليف العظام.
وفي هذا العصر اختلط فيه المجتهدين بغيرهم، فكان يوجد أهل الاجتهاد المطلق، ولكن غلب التقليد في العلماء، ورضوا به خطة لهم، ولا يزال في هذا العصر يزيد التقليد، عالة على فقه أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل -رحمهم الله- وأمثالهم.
ومن أمثلة أصول العلماء المجتهدين في الفتوى في هذا الطور: فتاوى أحمد بن حنبل مبنية على خمسة أصول أحدها: النصوص القرآن والحديث المرفوع، فإذا وجده، أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه كائنا من كان. ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا، ولا قياسا، ولا قول صحابي، ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعا.
 الأصل الثاني: فتاوى الصحابة، فإذا وجد لأحدهم فتوى لا يعرف لها مخالفا منهم فيها لم يعدها إلى غيرها، ولم يقل: إن ذلك إجماع، ولا يقدم على هذا عملا ولا رأيا ولا قياسا.
الأصل الثالث: إذا اختلف الصحابة، تخير من أقوالهم أقربها إلى الكتاب والسنة ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف ولم يجزم بقول، ويأتي عنه أنه قد يقدم قول الصحابي على الحديث المرسل.
الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد عنده بالضعيف الباطل، ولا المنكر، ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه، بل هو عنده قسيم الصحيح، وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح، وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه، ولا قول صاحب، ولا إجماع على خلافه، كان العمل به أولى من القياس، ولا أحد من الأئمة إلا وهو موافقة على هذا الأصل في الجملة.
الأصل الخامس: القياس وهو عنده مستعمل للضرورة بحيث إذا لم يجد حديثا، ولا قول الصحابي، ولا مرسلا ولا ضعيفا قال به.[18]

المطلب الرابع: الطور الرابع للفقه
هذا الطور مبدؤه من أول القرن الخامس إلى وقتنا هذا الذي هو القرن الرابع عشر، وذلك أنه وصل إلى منتهى قوته في القرون الأربعة السابقة، وتم نضجه.وفيه قصرت الهمم عن الاجتهاد إلى الاقتصار على الترجيح في الأقوال المذهبية، والاختيار منها، ثم قصروا عن ذلك في هذه الأزمان، واقتصروا على النقل عمن تقدم فقط، وانصرفت همتهم لشرح كتب المتقدمين وتفهمها.[19]




المبحث الثاني: شبهات المستشرقين حول الفقه الاسلامي والرد عليها.
المطلب الأول: الشبهة الأولى والرد عليها
- نظریة تأثر الفقه الأسلامي بالقانون الروماني.[20]
زعم المستشرقون من خلال دراساتهم التاریخیة عن حیاة الأمة الإسلامیة عدم أصالة الفقه الإسلامي وأنه أستعان بالقانون الروماني وتأثر به تأثراً واسعاً، وتقوم نظریة تأثر الفقه الإسلامي بالقانون الروماني على أن هذا القانون أثر في ذلك الفقه بعدة وسائل ، والوسیلة الأولى والتي أثرت في الفقه الإسلامي تأثیراً مباشراً الرحلات التجاریة بین الرومان والعرب قبل الإسلام والتي أدت الى نقل التشریعات والقوانین البیزنطیة التي كانت تحكم البلاد الخاصة للدولة الرومانیة الشرقیة قبل الفتح الإسلامي له وبخاصة مصر والشام ، إضافة الى المحاكم التي تسیر نظامها حسب القانون والنظام القضائي الروماني في البلاد الخاضعة للامبراطوریة البیزنطیة قبل الفتح ، فضلاً عن ما كان موجوداً في البلاد التي فتحها المسلمون فوجدوا أمامهم تشریعات متطورة فسارعا الى نقلها الى تراثهم الفقهي. أما الوسیلة الاخرى والتي یدعي الاستشراق أنها أثرت في الفقه  الإسلامي تأثیراً مباشراً وجود مدارس القانون الروماني التي أنشئت في بعض المدن مثل (الاسكندریة وبیروت) ، وقد ظلت هذه المدارس تؤدي مهمتها العلمیة في تدریس القانون الروماني وتطویره الى ما بعد الفتح الاسلامي وأن الفقهاء المسلمین قد أطلعوا على آراء فقهاء تلك المدارس وكتبهم وأقرت الشریعة الإسلامیة بعض هذه النظم ومن ثم تسربت الى الفقه  الإسلامي وذلك عن طریق فقهاء الشریعة الإسلامیة.
وقد حاول المستشرقون في إثبات ما ذهبوا الیه من نفي أصالة الفقه  الإسلامي في مصدره وقواعده أو في تدوینه وتبویبه والتركیز على أعلام الفقهاء بقصد تشویه الجهد العظیم الذي قام به هؤلاء الفقهاء وإثبات إنهم كانوا عالة على غیرهم من الیونان والرومان ، وأول هؤلاء الفقهاء هو الأمام الاوزاعي (ت/ ١٥٧ ھ - ٧٧٣ م) فقد ذهب بعض المستشرقین الى أن هذا العالم درس الفقه البیزنطي في مدرسة بیروت القانونیة وظن هؤلاء المستشرقون أن نشأة الأوزاعي تُعضد زعمهم وتجعل لرأيهم حجة مقبولة ، لأن الانسان یتأثر بالبیئة التي عاش فيها مهما تكن درجة هذا التأثر، أما الفقیه الآخر الذي یرى المستشرقون أنه تأثر بمصادر غیر أسلامیة هو الأمام الشافعي (ت/٢٠٤ ھ - ٨٢٠ م) والذي یعد أول من كتب في علم أصول الفقه، فهو یؤصل لمنهج البحث الفقهي تأصیلاً رائعاً ،ولأن الشافعي أول من دون هذا العلم كان الهجوم علیه أوسع حتى أُتهم بأنه كان یعرف المنطق الیوناني حین وضع رسالته في الأصول وإنه درس القانون الروماني في مدرسة بیروت فأقدرته هذه الدراسة على منهجه العلمي الدقیق في التألیف.وبهذا فقد أقر المستشرقون بأن كل من التشریعات البیزنطیة التي كانت تحكم البلاد الخاصة للدولة الرومانیة ومدارس القانون الروماني قد قامت بدور مباشر وأساسي في تأثر هذا الفقه بذلك القانون ، ومن الطبیعي أن یستعین المسلمون بالقوانین المعرفیة للبلاد التي فتحوها إذ كانت على مستوى حضاري أرقى ، ویزعم بعض المستشرقین أن هذا التأثیر قد حدث لأن المجتمع الروماني كان أكثر تطورا ور قُیاً ، ولابد أن تتأثر الحضارة الأدنى أضافة الى ما سبق فأن الاستشراق یرى أن الأعراف والتقالید الجاهلیة ، والفرق النصرانیة ، والثقافة الأغریقیة وسائل أخرى تقوم عليها نظریة التأثر ولكن بصورة غیر مباشرة ، فالأعراف والتقالید الجاهلية التي كانت قانون العرب قبل الأسلام تأثرت بالقانون الروماني عن طریق التجارة والاتصال السیاسي والفكري ولما كان الإسلام لم يهدم كل تقالید ما قبل الاسلام ، حیث أقر منها ما كان صالحاً للبقاء ، وبهذا فإن القانون الروماني یكون أثر في الشریعة الإسلامیة والفقه الإسلامي بطریق غیر مباشر أما الفرق النصرانیة على تعددها فإنها لدى الاستشراق قد تأثرت فیما وضعته من مؤلفات قانونیة بالقانون الروماني ، وقد اثرت هذه المؤلفات في الفقه الاسلامي فهي من ثم معبر التأثیر القانوني الروماني في هذا الفقه. أما الأشخاص المثقفین ثقافة إغریقیة عالیة وآمنوا بالإسلام فهم من وجهة نظر الاستشراق قد نقلوا بعض الأفكار البیزنطیة الى الفقه الإسلامي.[21]
الرد عليها:
إن القول بإفادة الفقه الإسلامي من الرومان قول بین البطلان ، فالفقه الإسلامي یستقى أولاً وآخراً من الوحي ،وقد أمده الكتاب والسنة بأحكام كلیة وجزئیة لا تحصى ، أحكام تتناول الإنسان من نعومة أظفاره إلى مثواه الأخیر، وأن الفقه الروماني لا یعدو أن یكون تنظیماً ضیقاً ، خطؤه أكثر من صوابه لمجتمع تحكمه علاقات فوق البدائیة حیناً ، ودونها حیناً آخر.
ومما یدل على نفي تأثر الفقه الإسلامي بالقانون الروماني ، وجود نظم في ذلك القانون لا یعرفها هذا الفقه وكذلك وجود نظم في الفقه الإسلامي لا أصل لها في القانون الروماني، وعلى هذا فأن ما زعمه المستشرقون من نسبة قواعد هذا الفقه أو صوره الى مصدر روماني انما هو وهم.
أما الوسیلة الثانیة التي یرى الإستشراق أنها أثرت في الفقه الإسلامي تأثیراً مباشراً هي ما كان موجودٌ في البلاد التي فتحها ا المسلمون من قوانین بیزنطیة فهذه الوسیلة تناقض وقائع التاریخ وذلك أنه قبل ظهور الأسلام كانت القوانین الرومانیة قد زالت عن الولایات الشرقیة من الأمبراطوریة البیزنطیة ، فمن المعروف تاریخیاً أنه كان للرومان مدارس ومحاكم تسیر على أساس القانون ومنها مدرسة الإسكندریة ولكنها كانت قد أغلقت قبل فتح المسلمین لها بأكثر من قرن فقد ألغیت سنة ( ٥٣٣ م) ، وفتح المسلمون الإسكندریة ( ٦٤١ م) وكذلك مدرسة بیروت فقد هدمت على أثر زلزال سنة ( ٥٥١ م) ، وكان ذلك قبل میلاد الرسول (صلى لله عليه وسلم) بنحو عشرین سنة وقبل فتح المسلمین لها بنحو خمس وسبعین سنة ( ٦٣٥ م) ، أي بعد تكون الفقه الأسلامي وتحددت معالم مدارسه ومذاهبه ، فهذا الفقه بدأ منذ عصر البعثة وترعرع في عصر الصحابة والتابعین وبلغ الشباب والنضج في القرنین(الثاني والثالث الهجریین / الثامن والتاسع المیلادیین) ، وما كانت العلاقة بین المسلمین والدولة الرومانیة الشرقیة على وفاق قبل فتح القسطنطینیة حتى یمكن القول بأن بعض الفقهاء رحل إليها وألم بما كان في مدرستها من آراء وأفكار تشریعیة.أما المحاكم فإن الرسول (صلى لله عليه وسلم) في عصره كان هو القاضي وكان یرسل بعض أصحابه الى البلاد المجاورة التي دخلت في الاسلام لهذه المهمة ، ثم تولى الخلافة بعده الخلیفة أبو بكر الصدیق (رضي لله عنه).فكان عمر بن الخطاب (رضي لله عنه) قاضيه ، ثم لما كثرت الفتوحات الإسلامیة أصبح لكل ولایة قاضٍ، وأن المسلمین لما فتحوا البلاد ألغوا نظام القضاء فيها وأنشأوا محاكم قضائیة تحكم بالشریعة الاسلامیة. وكقاعدة عامة یفصل القانون الروماني بین القواعد القانونیة والقواعد الأخلاقیة على عكس التشریع الإسلامي التي لا تعرف هذا الفصل ، فمثلاً لم یكن هذا القانون یعرف واجب مساعدة الغیر أو يهتم بحمایة الطرف الضعیف في العقد ، ومن ناحیة القوانین الدولیة فلم یكن الرومان یرون للشعوب الأخرى عليهم أي حقوق ، أما الشریعة الاسلامیة فقد نظرت الى البشر كلهم على أنهم أمة واحدة ، ودعت إلى التسامح وأرست مبدأ الحریة في العقیدة.
ولذلك فأن أدلة الأستشراق التي تنفي أستقلالیة الفقه الاسلامي غیر صحیحة ، وكل من قرأ بعض كتب الفقه الإسلامي والقانون الروماني في موضوعیة یجد أن هناك جملة من الحقائق التي تؤكد أصالة ذلك الفقه،تنفي تبعیته لهذا القانون أو غیره من التشریعات الوضعیة ،ویمكن إجمال هذه الحقائق بالآتي :
- أن الفقه الأسلامي مستمد من الكتاب والسنة فمصدره الأساس إلهي على حین یقوم القانون الروماني على مشیئة الأنسان أي مصدره بشري.
- إن الفقه الإسلامي شامل لما یسمى بالعبادات والمعاملات ولكن القانون الروماني لا يهتم بالمسائل الروحیة.
- نظم الفقه الإسلامي كل العلاقات الإجتماعیة في محیط البیئة والدولة والعالم كله، غیر ان القانون الروماني لا يهتم بالسیاسة الدولیة ویُعد هذا الجانب من علم السیاسة لا من علم القانون.
- لایفرق الفقه الاسلامي بین الناس فكلهم أمام التشریع سواء ولكن القانون الروماني یقرر هذه التفرقة ، فالناس أمامه طبقات.[22]

المطلب الثاني: الشبهة الثانية والرد عليها.
- نظریة تأثر الفقه الأسلامي بالتلمود اليهودي.
سبق موقف الاستشراق من العلاقة بین الفقه الإسلامي والقانون الروماني ، ولا یكاد یختلف موقفه من العلاقة بین هذا الفقه والتلمود اليهودي عن ذلك الموقف ، ولیس في هذا تعارض في موقف الأستشراق من الفقه الإسلامي فهو بوجه عام ینفي إبتكار المسلمین لهذا الفقه ، ومن ثم تتلاقى آراء المستشرقین حول غایة واحدة وهي إعتماد الفقه الإسلامي على مصادر غیر إسلامیة ، فالمستشرقون بحكمهم في موقفهم من الفقه الإسلامي یصرون على نفي إصالته وإستقلاله ، وأن اختلفت الأسباب والوسائل.فالمستشرق الفرنسي (بوسكة) في دراسته بعنوان (تكون الفقه وأصل مصادره عقدة لم تنحل) انتهى الى أن الصلة مبتوتة بین الفقه الإسلامي والقانون الروماني ، ولكنه في القسم الأخیر من هذه الدراسة یشیر الى أن هناك علاقة بین الفقه والتلمود بقوله "وآخر ما أقول هو أن اليهودیة لها تأثیر عظیم جداً على تكُون الأسلام في عصر محمد (صلى لله عليه وسلم) ، وبشكل إجمالي یبدو لي واضحاً تماماً إن نقاط التشابه بین اليهودیة والإسلام وبعدما تطور غدا أكثر لفتاً للإنتباه من كل وجهات النظر ، من نقاط التشابه التي توجد في الإسلام والمسیحیة ، ولربما أمكن بالنسبة لبعض الأعتبارات أن تحدد (الإسلام) على أنه دیانة يهودیة ذات نزعة عالمیة". فهذا الكلام یدل على أن اليهودیة أثرت في الاسلام كله، عقائده وعباداته ومعاملاته وهناك من المستشرقین من رأى أن التأثیر اليهودي مقصورعلى نقل القانون الروماني الى الفقه الإسلامي ، لأن هذا القانون أثر في الفكر القانوني اليهودي ، وهذا الفكر أثر في الفقه الإسلامي ، فهو بذلك كان وسیلة نقل ولیس  بذاته صاحب الفضل. وكما أدعى بعض المستشرقین بأن الأمامین (الاوزاعي والشافعي) قد درسا القانون الروماني في مدرسة بیروت القانونیة وتأثرا بهذا القانون في آرائهما الفقهیة والأصولیة أدعى آخرون بأن الامام الشیباني (ت/ ١٨٩ ھ - ٧٠٥ م)
قد تأثر بمصادر غیر أسلامیة في مؤلفاته  الفقهیة ، واستفاد من تراث علمي غیر اسلامي وأنه قد تأثر بتدوین الفقه الأسلامي وتبویبه  وترتیبه بترتیب كتاب المشنا اليهودي فهو أذن مقلد ولیس مجدد . والمستشرقون یتخذون العلم وسیلة للتشویش على الدعوة الإسلامیة فیلفقون الأباطیل ویلقون بها في ساحة الشریعة الاسلامیة ، فیذكر المستشرق (جولد تسيهر) "فتبشیر النبي العربي لیس إلا مزیجاً منتخباً من معارف وآراء دینیة عرفها أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودیة والمسیحیة وغیرها ، التي تأثر بها تأثراً عمیقاً ، والتي رآها جدیرة بأن تقوظ عاطفة دینیة حقیقیة عند بني قومه" وهذا الكلام یدل على ان الرسول (صلى لله علیه وسلم) خلال رحلاته المتعددة التقى ببعض اليهود والنصارى الزاهدین ، وأصبح یفكر شیئاً فشیئاً في الحیاة الخلقیة والدینیة السیئة بمكة ، وأصبح ضمیره یتعمق في هذه الأمور عن طریق التفكیر والتأمل.[23]
الرد عليها:
أما موقف المستشرقین من الفقه الأسلامي وأصرارهم على نفي أصالته وأسقلاله وأن روح التلمود قد أثرت في الفقه الأسلامي. فلا یمل الباحثون الغربیون في الإسلام عن القول أن الاسلام أخذ هذه الشعیرة أو تلك العبارة من اليهودیة ، إذ یدعي أن صلاة الجمعة كان تقلیداً للطریقة اليهودیة ، وأن الحلف عند اليهودیة خطیئة یجب التكفیر حنث في یمینه وسواء أكانت اليهودیة قد أثرت في الفقه الأسلامي مباشرة (كما یذهب بعض المستشرقین) أم نقلت الیه من القانون الروماني (كما یذهب البعض الآخر منهم) فإن هناك أمران یقطعان بنفي الصلة بین التعالیم اليهودیة والفقه الإسلامي وإنه لم یكن لها تأثیر ذاتي أو بالواسطة في هذا الفقه وأول هذين الأمرین التفاوت بین التعالیم اليهودیة والفقهیة الإسلامیة ، فإنه واضح في مختلف المجالات التشریعیة كنظام الأسرة ، ونظام العقوبات ، فضلاً عن الاجراءات الشكلیة التي تحكم التعالیم اليهودیة وهذه الاجراءات لا یعرفها الفقه الإسلامي ، ففي التلمود عقوبة الحرمان بسبب ارتكاب الأفعال الضارة ، وهذه العقوبة یترتب عليها نبذ الجاني في المجتمع اليهودي ولا نظیر لهذه الحالة في عقوبات الفقه الإسلامي.
أما الأمر الثاني فهو عدم وقوف الفقهاء المسلمین على التراث التشریعي اليهودي في عصر نشأة الفقه وظهور المذاهب فإن هؤلاء الفقهاء لم تكن لديهم الوسیلة التي تمكنهم الأطلاع على القانون اليهودي ، فكل من التوراة والتلمود كان مكتوباً بلغة غیر عربیة وما كان الفقهاء المسلمون یقبلون على تعلم اللغات الأجنبیة ولعدم حاجتهم اليها من جهة ، ولعدم تیسر أسباب تعلم هذه اللغات من جهة أخرى ، ومن ثم ظت التشریعات اليهودیة مجهولة لدى اولئك الفقهاء حتى أوائل (القرن الرابع الهجري / العاشر المیلادي) ، وبذلك فإن التفاوت الجوهري بین القوانین التلمودیة والتشریعات الإسلامیة ، وعدم وقوف فقهاء المسلمین على تلك القوانین لعدم نقلها الى العربیة إلا في أوائل القرن (الرابع الهجري / العاشر المیلادي) لا تجعل لموقف الاستشراق من موضوع تأثیر التلمود في الفقه وزناً علمیاً ، ویقضي على آراء الإستشراق في تراثنا وحضارتنا بعدم الموضوعیة.[24]



الخاتمة
لم ينقطع تفكير الغرب في الانتقام من الإسلام وأهله بطرق أخرى، فكانت الطريقة الأولى هي دراسة الإسلام ونقده، وفي جَوِّ هذا التفكير الذي ساد البيئة المسيحية في الغرب خلال القرون الوسطى نشأت فكرة الاستيلاء على البلاد الإسلامية عن طريق القوة والغلبة حين بدأ العالم الإسلامي يتدهور سياسيّاً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً، وأخذ الغرب يسطو مرة بعد مرة على بلد بعد بلد في العالم الإسلامي، وما كاد ينتهي للغرب استيلاؤه على أكثر أقطار العالم الإسلامي حتى بدأت الدراسات الغربية عن الإسلام وتاريخه تنمو وتتكاثر. بقصد تبرير سياستهم الاستعمارية نحو هذه الشعوب، وقد تم لهم في القرن الماضي دراسة التراث الإسلامي من جميع نواحيه الدِّينِيَّةِ والتاريخية والحضارية، ومن الطبيعي أَنْ تكون الدراسة محجوبة عن إصابة الحق فيها بأمور:
الأول: التعصب الديني الذي استمر لدى ساسة أوروبا وقادتها العسكريين حتى إذا دخلت جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الأولى بيت المقدس، قال اللورد " ألنبي" كلمته المشهورة: «الآن انتهت الحروب الصليبية» أي من الناحية العسكرية.
أما التعصب الديني: فما يزال أثره باقياً في كثير مِمَّا يكتب الغَرْبِيُّونَ عن الإسلام وحضارته ،وأكثر ما نجد إنصاف الإسلام ورسوله عند العلماء والأدباء الغَرْبِيِّينَ الذين تَحَلَّلُوا من سلطة ديانتهم.
الثاني: أنَّ القوة المادية والعلمية التي وصل إليها الغَرْبِيُّونَ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أدخلت في نفوس علمائهم وَمُؤَرِّخِيهِمْ وَكُتَّابِهِمْ قدراً كبيراً من الغرور حتى اعتقدوا أنَّ الغَرْبِيِّينَ أصل جميع الحضارات في التاريخ - ما عدا المصرية - وَأَنَّ العقلية الغربية هي العقلية الدقيقة التأمل التي تستطيع أَنْ تفكر تفكيراً منطقياً سليماً، أما غيرهم من الشعوب - وخاصة الإسلامية - فَإِنَّ عقليتهم بسيطة ساذجة.
الثالث: الحقد الذي يكنه كثير من هؤلاء المستشرقين على الاسلام وأهله، حتى دفعهم ذلك إلى اختلاق الأكاذيب حول الفقه الاسلامي وغيره من أصول الدين وفروعه، والى انتهاج طرق غير علمية في أبحاثهم ودراساتهم.






[1] ينظر : الفكر السامي، الحجوي،(1/ 68)
[2] السابق، (1/70،71)
[3] تاج العروس للزبيدي، جـ9، ص402.
[4] مقاييس اللغة 4/442 جـ21
[5] ينظر: الورقات للجويني ص 7.
[6] مقال : من مجالات الدراسات الاستشراقية .. الفقه الإسلامي ،د.أنور محمود زناتي ،موقع الألوكة، رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/53053/#ixzz3LykalIp6 .
[7] ينظر: موسوعة المستشرقين، عبد الرحمن بدوي، ص 200- 201.
[8] القكر السامي، الحجوي (1/73 ،74)
[9] آل عمران: 132.
[10] النساء: 80.
[11] النساء: 115.
[12] ابن ماجة في السنن في كتاب الفترة عن أنس "ج2/ 1303"، وأخرج ابو داود في السنن عن أبي مالك الأشعري: "إن الله أجاركم من ثلاث -وذكر منها- وأن لا تجتمعوا على ضلالة" "ج4/ 98"، وأخرج الترمذي عن ابن عمر: "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة" "ج4/ 466".
[13] النساء: 83.
[14] النساء: 105
[15] القكر السامي، الحجوي(1/79)
[16] الفكر السامي،(1/278- 280)
[17] السابق، (1/286)
[18] الفكر السامي،(2/25- 27)
[19] السابق (2/189)
[20] يقصد بالقانون الروماني أو الشريعة الرومانية ذلك القانون الذي نشأ وطبق في المجتمع الروماني منذ نشأة مدينة روما في القرن السابع قبل الميلاد حتى تقنينه في مجموعات الامبراطور جستنيان في القرن السادس الميلادي.
[21] ينظر: الفقه والااستشراق، الدسوقي، ص9 ومابعدها، بحث: الفقه الإسلامي في دراسات المستشرقین
د.بان حسین حسن السنجري، مجلة كلية البنات ص3.
[22] ينظ: الاستشراق والفقه الاسلامي، الدسوقي، ص 12 وما بعدها، وبحث : الفقه الإسلامي في دراسات المستشرقین
د.بان حسین حسن السنجري، مجلة كلية البنات ص6-8، و:مفتريات وأخطاء دائرة المعارف الإسلامية(2/848)
[23] ينظر: الفقه الإسلامي في دراسات المستشرقین د.بان حسین حسن السنجري، مجلة كلية البنات ص4.
[24]الفقه الإسلامي في دراسات المستشرقین،د.بان حسین حسن السنجري، مجلة كلية البنات ص8.


المستشرق: ماسينيون

إشراف : د. خالد القاسم

إعداد: مريم الشايع




المقدمة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :
تزخر المكتبة الاسلامية بآلاف الكتب في شتى المعارف والفنون، وليس الأمر مقتصراً على المؤلفين من المسلمين فقط .. بل زاحمهم في ذلك غيرهم من غير المسلمين عامة والمستشرقين خاصة .. لأهداف متعددة. والدراسة التي بين أيدينا عن شخصية اهتمت بمسألة الانتاج والتأليف  في فنون متعددة وتخصصات عدة من التخصصات الاسلامية..  وان كان اهتمامها الاكبر في مجال دراسة التصوف ، حتى عُد المرجع الأهم في هذا الباب عند الغرب.. إنه المستشرق الفرنسي : لويس ماسينيون.
وحينما نقوم بمثل هذه الدراسة نستطيع أنْ نرى في ضوئها ما يلي:
أولاً: عدد الكتب التي أخرجها المُسْتَشْرِقُونَ بجهودهم العلمية، وتحديد (الكَمِّ) الذي قاموا بخدمته من تراثنا، ويتبع ذلك، وينبني عليه بيان نسبة عملهم إلى مجموع ما تم نشرُهُ، فيتحدَّدُ بالضبط المقدار الذي اسهموا به في نشر تراثنا.
ثانياً: معرفة اتجاهات النشر لدى المُسْتَشْرِقِينَ، بمعنى أنْ نعرف الكتب التي تحظى باهتمامهم وتجذب انتباههم، من أي لون هي، ومن أي فرع من فروع المعرفة، وما قيمتها في هذا الفن، ثم ما علاقتها بما ينشرونه من فنون أخرى.
ثالثاً: درجة الدِقَّةِ والاتقان في هذه الأعمال، بل درجة الصحة والصواب، وماذا فيها من خلل أو زلل نتيجة العجز عن إدراك سِرَّ العربية، وامتلاك ذوقها ، والعجز عن استكناه سِرَّ التراث، واستلهام روحانية الإسلام..[1]
والمطلع على الاتجاه الفكري للمستشرقين:.. لعلّه يدرك أن هذه النتائج ليست في حاجة إلى نظر أو تأمُّل، فهي تنطق باتجاهات القوم في النشر بوضوح، وتكشف عن أهدافهم بجلاء، فالتصوُّف والفلسفة وعلم الكلام –مثلاً- (وهو الاتجاه الأول عندهم) ليعرفوا السلوك، والفكر، والعقيدة للفئة مجال البحث والدراسة، وهم المسلمون.
فهذا الولوع الغريب بدراسة هذه العلوم، ونشر مؤلفاتها، لا تفسير له إلاَّ في ضوء أهدافهم، فهم يتعرَّفُون على هذا اللون من الفكر، ويتَّبعون شطحاته وانحرافاته، كي تقعد بالناس عن الاسلام الحقيقي الصحيح.[2]
*التعريف به:
لويس ماسينيون ، من أكبر مستشرقي فرنسا وأشهرهم ،ولد في 25 يوليو1883م، على ضفاف نهر المارن بضاحية نوجان إحدى ضواحي باريس، وكان أبوه فناناً درس الطب ثم عدل عنه إلى الفن ،واشتهر بفن النحت، وكان لهذا أثر في تنشئة ابنه ، فقد نشأ نشأة عقلية فنية. وبقي تذوق ماسينيون للفن، و الاسلامي منه بخاصة ، من العلامات البارزة في إنتاجه الروحي.. وهو ما نلحظه أيضا في عنايته بالآثار الاسلامية. تعلم العربية والفارسية والتركية والألمانية والإنكليزية . شكَّل الإسلام محورَ حياة المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون ، باحثاً ومحققاً ومدرِّساً ولغوياً وعالمَ اجتماع وموظفاً عمومياً في خدمة دولته ومصالحها .  واستهواه التصوف الاسلامي خاصة ؛ فكتب عنه مؤلفات ومقالات كثيرة وبعض شخصياته.[3]
*حياته العلمية والعملية:
قضى ماسينيون داسته الثانوية في ليسيه لوي لوجران المشهورة في باريس، ثم التحق ب(المدرسة الوطنية الشرقية الحية) وهي التي تخرج فيها أجيال من المستشرقين الفرنسيين والأجانب . خدم في الجيش الفرنسي خمس سنوات خلال الحرب العالمية الأولى. وحصل على البكالوريا في الأدب والفلسفة 1900م، ثم البكالوريا في الرياضيات 1901م.
وبعدها انطلقت رحلات ماسينيون إلى البلاد الإسلامية فسافر في رحلة قصيرة إلى الجزائر عام 1901م، ثم عاد إلى باريس فحصل على ليسانس الآدب الفرنسي، ثم إلى مراكش في أبريل سنة1904 وكتب عنها بحثا صغيراً، ونال به دبلوم الدراسات العليا في السوربون بجامعة باريس بقسم العلوم الدينية على يد أحد المستشرقين ،ثم تابع محاضراته عن دراسة الإسلام من الناحية الاجتماعية.ودرس اللغة العربية في المدرسة الوطنية للغات الحية، غير أن بداية حياته الإستشراقية جاءت باشتراكه في المؤتمر الذي عقد بالجزائر في ابريل 1905م، وهناك تعرف إلى جولدتسيهر ، وأول زياراته للقاهرة كانت 1906م حيث بدأ ابحاثه الأثرية الإسلامية، واهتمامه بالآثار القديمة، جعله يشارك في التنقيب عنها في العراق(1907– 1908م)
حيث أدى ذلك إلى اكتشاف قصر الأخيضر.كما درَّس في الجامعة المصرية القديمة (1913) .وفي 27 مارس 1919م أصبح تحت تصرف وزارة الخارجية الفرنسية بوصفه ضابطاً ملحقاً بمكتب المنتدوب السامي الفرنسي في سوريا وفلسطين وقليقلة، وكان ضمن الجيش الذي دخل القدس 1917م.
وحينما نشبت الحرب العالمية الثانية عاد فوضع نفسه تحت تصرف الجيش الفرنسي، وخَدَم في الأركان العامة برتبة رئيس كتيبة العاملين في قسم ماوراء البحار، ثم معاوناً لوزير الإعلام. وانتخب عضواً في الأكاديمية الإيرانيّة، وبعد أن أطلق الألمان سراحه في فرنسا عاد إلى بلاد الشرق ليلقي محاضراته، وزار أفغانستان، وعيّن عضواً في الأكاديمية الأفغانية، ثم سافر إلى الهند وزار جامعاتها ومعاهدها الإسلامية، كمازار قبر المسيح المزيّف هنالك، والتقى نهرو ومُنع من زيارة غاندي في السجن، ورفض زيارة محمد علي جناح مؤسس باكستان الإسلامية بدعوى أنه انفصالي.‏
وقد كان اهتمامه أولاً بالآثار الإسلامية، ثم دراسة النظم الاجتماعية في البلاد الإسلامية، مروراً بالدراسات الفلسفية والعلمية،ثم دراسة الشيعة بكل تطوراتها وفروعها وبخاصة المغالية منها كالقرامطة والنصيرية والإسماعيلية، حيث كانت تستهويه المذاهب الخفية المستورة والحركات السرية سواءً الروحية منها أو السياسية، وقد زار مشاهد الشيعة كلها جنوبي بغداد، كما زار سلمان باك القرية التي تضم مشهد الصحابيين الجليلين (سلمان الفارسي وحذيفة) فضلاً عن بقايا إيوان كسرى.ولمّا أنشئ المجمع اللغوي بالقاهرة في سنة 1933 عُيّن عضواً عاملاً به حتى 1056 ثم عضواً مراسلاً من سنة 1957م وحتى وفاته.وشارك في مؤتمر المستشرقين الألمان، حيث ألقى بحثاً عن الشّيعةىالمتطرّفين في نهاية القرن الثالث الهجري، كما شارك في المؤتمر العشرين للمستشرقين في بلجيكا.
عين أستاذاً بديلاً في الكوليج دي فرانس من 1919م إلى 1924ملكرسي دراسة الاسلام من الناحية الاجتماعية، ثم أصبح أستاذاً لهذا الكرسي من 1926م حتى 1954م، وعين مديراً للدراسات بالمدرسة العملية للدراسات العليا قسم العلوم الدينية، وظل فيه حتى تقاعد عام 1954م.ولما أنشئ المجمع اللغوي عين عضواً عاملاً فيه حتى 1956م .
وتولى لويس تحرير "مجلة الدراسات الإسلامية"، وأصدربالفرنسية "حوليات العالم الإسلامي" حتى عام 1954م.غير أن كل هذا لم يشغله عن صاحبه الحلاج، بل أن جُل دراساته كانت تصب في رحى روح صاحبه.[4]
*أهم مؤلفاته:
آثاره تربو على 650 بين مصنف ومحقق ومترجم، وبين مقال ومحاضرة وتقريرونقد ومقدمة وسيرة...
منها:
جغرافية المغرب،  وآلام الحلاج وومذهب الحلاجية ، والحلاج والشيطان في نظر الزيدية، والطواسين للحلاج –متضمنة النص العربي والترجمة الفارسيةعن مخطوطات استانبول ولندن-  وتاريخ تأليف إخوان الصفا( مقال في مجلة الاسلام) ، وأصول عقيدة الوهابية، وفهرس بمصنفاتها (نشر في مجلة العالم الاسلامي)ووثائق عن المطالب الاسلامية، أساليب تطبيق الفنون لدى شعوب الاسلام، وترجمت الى التركيةوأثر الاسلام في تأسيس المصارف اليهودية وحركتها في العصر الوسيط(نشر في مجلة الدراسات الشرقية) ، وبحوث عن الشيعة المتطرفة في بغداد في أواخر القرن الثالث الهجري (نشرت في المجلة الشرقية الالمانية) ، وأهل الكهف( قدمه في مؤتمر المستشرقين) [5]
وفي دائرة المعارف الاسلامية حرر- في الطبعة الأولى منها – (33) مادة عن التصوف والفرق الباطنية، كالقرامطة، والنصيرية، والزندقة، والزهد، و..غيرها[6].


*أفكاره ومعتقداته:
من الأفكار المهمة التي آمن بها ماسينيون كانت فكرة"البَدَليّة": وتفهم كشفاعة الأنبياء والمُخلصين، وطبّق فكرة البدليةعلى الحلاج، حيث يرى أن حياة الحلاج وشفاعة موته من أجل أمته تمتد إلى ما بعد إعدامه، فهو يرى أن موت الحلاج نوع من الألم البطولي تحمله من أجل الآخرين،منتمياً بذلك إلى سلسلة البدائل أو الشواهد، فالحلاج بوصفه أحد البدائل قد قبل ظلم مجتمعه وطلب الاستشهاد، وصلب مرفوضاً ومنبوذاً ومهمشاً، لكنه عبر العصور، رويداً رويداً، تقبّله الوعي الأخلاقي للعالم الإسلامي وها هو يقوم بعمله البَدَلي في حياة الناس بعد قرون طويلة، وهذا فيه شبه لعقيدة النصارى في نبي الله عيسى u، وتحمله لأخطاء بني آدم عبر الفداء، وكأنه أراد تطبيق هذه العقيدة على المسلمين من مدخل التصوف.
أراد ماسينيون هداية قلوب المسلمين الى روح الكنيسة، فمقصد البدلية «إظهار» المسيح في الإسلام،ومنذ العام 1953م، شاركت لجنة فرنسا–إسلام التي يرأسها في صوم اليوم الأخير من رمضان، باعتباره ليلة القدر، ومنذ العام 1956م كانت الفاتحة تُقرأ في افتتاح الجلسة الشهرية للبدلية، وفي العام 1959م اتهم الأزهر دار السلام التي يديرها ماسينيون ومقر البدلية بالتبشير المموه، فرد برسالة دفاع.
أما بالنسبة للإسلام فكان ماسينيون يعتقد أنه تعبير حقيقي عن الإيمان التوحيدي المتحدر من إبراهيم عن طريق إسماعيل، وأن له رسالة روحية إيجابية بتأنيب عبدة الأوثان وإعطاء المسيحيين نموذجاً للإيمان والاستسلام.
وكان لماسينيون موقف من وحدة الأديان، حيث اهتم بالأماكن التي يستطيع أن يشترك فيها المسيحيون والمسلمون في الصلاة كالقدس ومقام إبراهيم في الجليل ومزار "أهل الكهف السبعة في أفسس".[7]
وأقر ماسينيون أن الإسلام منحه ما كرس نفسه له، أي"الرحمة"الرأفة و"البدلية"أشخاص عاديون عاميون يتبعون قانوناً رهبانياً يؤدون مجموعة من الصلوات هدفها جعل المسلمين يعترفون بالمسيح من خلال إحلال أنفسهم مكانهم، وفكرة"البدلية"تستحق وقفة ويجب تمييزها عن"الأبدال"عند الأولياء والمتصوفة المسلمين، إذ إن ماسينيون رغم افتتانه بالإسلام، الإ أنه عد عقيدته فقيرة، ورأى أنه يفصل بين الإنسان وربه ويرفض الاتحاد بين الخالق والمخلوق، فأراد إكمال ما اعتبره"غير ناجز"في الإسلام، من خلال شهادة تنقل اليه ما ينقص:"الإيمان بالتثليث"، وملاقاة الإشارات القرآنية حول السيدة مريم العذراء، وبعبارته جعل الإسلام:"يعيد الاكتشاف، في داخله وفي قلبه، للوجه المقدس للمسيح، عيسى ابن مريم"شرح البدلية، 1947. أراد ماسينيون من خلال الصلوات، هداية قلوب المسلمين الى روح الكنيسة، فمقصد البدلية"إظهار"المسيح في الإسلام. كما حضه الإسلام على إيلاء العناية لمفهوم القداسة.. ولهذا القصد انصرف الى دراسة المظاهر الروحانية عندنا، ولا سيما التصوف، وجهد في إثبات أصالته أصول قرآنية حتى من دون المؤثرات الأجنبية. [8]
*موقفه من التصوف :
يذكر ماسينيون أنه قد تعرض للتوقيف من قبل السلطات العثمانية في أيار 1908م واتهم بالجاسوسية وسجن وهدّد بالموت، وأفرج عنه بفضل عائلة من العلماء العرب المسلمين في بغداد توسطت له، وقرّر أن يلتزم بدراسة الإسلام عميقاًوجدياً.وفي فرنسا اعتقله الألمان مدةً ثم أطلق سراحه. [9]
وقد استرعى الإسلام انتباهه في بلاد ما بين النهرين عام 1908 أثناء ما أطلق عليه هو "زيارات الخارج"، حين اهتم بالحلاج الصوفي واكتشف قبر سلمان الفارسي عام 1927، كما حضَّر دروساً دينية في جامعة الأزهر في القاهرة في الأعوام 1910-1912 وقت وجوده هناك. وعاين هذا الدين حين أنقذته مادياً ومعنوياً عائلة الألوسي في بغداد.[10]
أما عن الشخصية التي استحوذت كثير من كتاباته ودراسته وهي ( الحلاج) فقد ابتدأت علاقته به: في مارس عام 1907م، حينما قرأ ماسينيون أشعاراً لفريد الدين العطار –الشعر الفارسي الصوفي- تدور حول مصرع الحلاج فلفت هذا نظر ماسينيون ، وأُعجب به إعجاباً جعله يكرس دراساته له ..وقد كانت اول دراسة عنه بحثاً بعنوان ( عذاب الحلاج والطريقة الحلاجية).. تلاه آخر .. وقد كان أول بحث كبير هو نشره لكتاب(الطواسين) عام 1913 النص مع الترجمة الفارسية.، كما عهد إليه بكتابة مادة (حلاج) في دائرة المعارف الاسلامية.[11]
*منهجه في دراسة التصوف:
دراسته في التصوف انصبت على الحلاج بالدرجة الأولى ..فقد كان يجمع النصوص ، ويحقق كثيراً من أخباره ، ويعنى بكل مايتصل بنشأة التصوف الاسلامي قبل الحلاج ، ويوسع قاعدة البحث حتى تشمل كل الصوفية السابقين عليه. وقد قرر أن يجعل الحلاج موضوع رسالته ... وقد فرغ من كتابة الرسالة الرئيسية بعنوان : ( عذاب الحلاج ، شهيد الصوفية في الاسلام ) ونوقشت الرسالتان معا 24 مايو  عام 1922م واختير هذا التاريخ ليوافق مرور ألف عام على صلب الحلاج!
وكانت رسالته الأولى حدثاً ضخماً في تاريخ دراسة التصوف الاسلامي، وتاريخ الدراسات الاسلامية بعامة. فهي دراسة حافلة لكل التيارات الصوفية والكلامية والفلسفية والدينية التي أثرت ومهدت لظهوره وعاصرت رسالته الصوفية عن الحلاج.
أما الرسالة الثانية فبعنوان  : ( بحث في نشأة المصطلح الفني الاسلامي)  استعرض نشاة التصوف الاسلامي منذ عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – حتى الحلاج . ودرس المصطلحات الكبرى التي ظهرت في تلك الفترة. هذا وقد زعم ماسينيون أن التصوف قد نشأ عن أصول إسلامية خالصة مستمدة من القرآن وسنة الرسول وحياته وأصحابه ذوي النزعات الزاهدة- على حد قوله-  .
وبعد هاتين الرسالتين استمر نشاطه العلمي محصوراً في المقالات والابحاث الصغيرة، ..ح وفي عام 1929م اصدر كتابا كبيرا يكاد يُلحق برسالتيه ، لأنه يتضمن النصوص العربية غير المنشورة والتي استعان بها في رسالتيه . وهذا الكتاب اسمه( مجموع نصوص غير منشورة تتعلق بتاريخ التصوف في بلاد الاسلام).
وفي عام 1931 نشر (ديوان الحلاج) مع ترجمة فرنسية . وعكف على أخباره ، فأخرج هو ومؤلف آخر كتاب (أخبار الحلاج) مع ترجمة فرنسية أيضا.  ثم كتب عن دراسة عن أسانيد أخبار الحلاج! وبحثا عن (حياة الحلاج بعد وفاته )، و( المنحى الشخصي لحياة الحلاج) [12]
ولقد تعرض ماسينيون للنقد من جانب العلماء المسلمين، لأنه ابتدع (خرافة الحلاج) ولأنه حول الحاوي الى شهيد.، ومهما بلغت درجة اختلافنا مع ماسينيون في تاريخية هذه الشخصية..فإن كتابه يبرز باعتباره دراسة مثالية للصوفية، ونظراً لما يتميز به من صرامة عريقة من الناحية المنهجية واستنفاداً لببليوغرافيا هائلة ودراسة وتحليل عميق للمصادر التاريخية.[13]
*منهجه في كتابه : ( عاطفة الحلاج الشهيد الدولي في الإسلام) :
كانت النية تتجه إلى أن يكون هذا الكتاب دراسة لحياة الحلاج، بيد أن هذا الكتاب قد أشاد ببعض الجوانب الصوفية الاسلامية وأرسى أسساً للجوانب الأخرى التي تتلوها. ويبدو لنا مدخل ماسينيون في المعالجة مدخلاً شاملاً متخصصاً، فكلا المدخلين مرتبطان ببعضهما بصورة معقدة. وهذه الطريقة المزدوجة التي استخدمها يمكننا تفسيرها اذا نظرنا الى طبيعة الموضوع الذي عالجه.
فكتابات الحلاج محدودة جداً. كما أثرت طبيعة المصادر التي استقى منها ماسينيون معلوماته تأثيرا واضحا على معالجته.. لكن هذا دفع به الى توسيع رقعة طريقة المعالجة مما يضفي على كتابه أهمية كبيرة أكبر من أن يكون مجرد سيرة حياة موجزة.. كذلك ربما كانت تلك الجوانب التي تتصل بخلفية الحلاج التاريخية وبالصوفية أهم بكثير مما كتبه عن الحلاج نفسه.  كذلك الجهد الذي بذله في دراسة البنية الاجتماعية له وأساتذته ورحلاته. ويبين كذلك أثر الصوفية على روح الحلاج  من خلال ما لخصه لنا ماسينيون من الاحوال الأساسية التي يتكون منها مذهب التدرج في المعرفة  عندهم ، وهي نور العقل ونور الايمان ونور الذات المقدسة.
ويتساءل ماسينيون عن الجهد التفسي الذي تعرض له الحلاج عندما خضع لمثل تلك المذاهب الصوفية القاسية حيث التركيز على القدرية  الى حد يصل الى انقاص حقيقة الروح  في نهاية المر ، حتى تصبح عبارة عن الفكرة المقدسة. ويرى أن هذه النصوص ستسمح لنا أن ندرك حالة ضمير الحلاج وهي نقطة البدء في حياته كلها اذ جاء تكوينه بالحياة الجمالية التي عاشها والتي تغذ من مكة ومن أزمة الضمير ومن التخيل الصوفي. ونجد أن انحراف الحلاج عن منهج أهل السنة يتمثل في إضفائه على الحديث صفة أنه فوق مستوى البشر وشبه إلهي!
ويكز ماسينيون على النواحي الصوفية للحلاج باعتبارها تسود أسلوب حياته، ومذهبه وتعاليمه. كماأن الصرامة التي اتسم بها قانونه الأخلاقي يضفي على نظريته صفة القوة. وباعتبار ماسينيون كاثوليكياً ربط تفسيره الذاتي لصلب المسيح تضحية منه في سبيل خلاص البشرية ، بحياة الزهد والتقشف التي عاشها الحلاج والتي ادعى أنها تضحية لله وقربان له.
ومما ورد من حكايات تفسر كرامات الحلاج المزعومة مايفسر لنا لماذا خشي العباسيون شعبيته المتزايدة باعتبارها قوة سياسية تهددهم .
وبالامكان ان نقول – بالرغم من اتخاذ ماسينيون موقفا محدداً إلا أنه قدم مادة كافية من خلال عمله للقارئ ليتبنى موقفه الخاص به تجاه الحلاج ومحاكمته.
ومن الناحية المنهجية نجد أن طريقة المعالجة الشاملة وجدت مايسوغها في البحث العميق الذي أجري لتأكيد كل فصل من الفصول بالدقة اللازمة لأي عمل متخصص . وبرغم ماأسداه هذا الكتاب إلى دراسة الصوفية من إسهام كبير ، نجد القارئ لا يقتنع -بالضرورة – بالحلاج ! سواء باعتباره مفكراً أو حتى صوفياً.[14]
*الموقف من ماسينيون :
ماسينيون هو ابن مجتمعه الفرنسي، تلك الدولة التي سعت في تشويه الفكر الإسلامي لإزالة العقبات عن حركتها الاستعمارية للشرق الإسلامي، ولهذا اشتهرت بأنّها من أبرز دول أوربا الغربية في مجال إعداد جيش من المنصرين والمستشرقين، مدرّبين على أحدث وسائل التنصير، انتشروا في إفريقيا ودول الشرق الأوسط وهذا هو الذي دفع رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق محمد كرد علي للقول: "إننا نرى من واجبنا أن يشكّ كل عربي وكلّ مسلم في أكثر ما يصدر من الأحكام من الفرنسيين على الإسلام والمسلمين، وذلك لأنّه ثبت أن من الفرنسيين من لا ينظرون إلى كل أمر إلاّ بمنظار الاستعمار". وكان ارتباطه بالاستعمار الفرنسي للشرق العربي وكذلك حملات التطهير للبسطاء والأميين مثار جدل واستفهام، رغم ما يُحكى عنه من موقفه اللاعنفي "الغانديّ"، وكيف أنه يوسع تضامنه مع البشر حتى أقاصي الأرض.
ويعد ماسينيون قبل كل شيء رجل دين كاثوليكي يحاول عن طريق دراساته للدين الإسلاميّ أن يقدّم خدمةً للكنيسة الكاثوليكية.ويؤكّد مالك بن نبي هذه الحقيقة في دور ماسينيون قائلاً: إنّ ماسينيون قد تفرّغ آخر حياته للتنصير، وقد مدّ وزارة الخارجية الفرنسية بالمعلومات والتوصيات حول البلاد الإسلامية، وتهيئة العملاء والكتّاب. وقد تأثّر ماسينيون تأثراً كبيراً بالمستشرق اليهودي النمساوي جولدتسيهر الذي حاول أن يثبت أنّ الحديث النبوي كلّه موضوع في عهود لاحقة كما في كتابه دراسات إسلامية، واعتبر الإسلام نسخة مشوهة للديانة اليهودية والمسيحية. وبالتالي فإنّ ماسينيون أخذ كثيراً من تعاليم هذا المستشرق اليهودي، وبدت واضحة على كتاباته وشروحه التي نشرها في أكثر من كتاب، فمثلاً كان ماسينيون يركز على المعارف الفلسفية والصوفية الشاذّة والسيّئة.
إنّ ماسينيون قد ووظّف جُلّ معارفه الاستشراقية في خدمة الأهداف الاستعمارية وفي مقدّمتها التبشير للنصرانية، ويتّضح هذا في أكثر من دليل، منها زعمه أنّ المسلمين يعتقدون في شأن عيسى بن مريم على ما جاء في القرآن، ومن أجل ذلك يرجو أن توجّه الجهود إلى جعلهم يعتقدون بعيسى بن مريم نفسه، ولكن باسمه المسيحي، ولا شكّ في أنّ ماسينيون يدرك جيداً أن نظر المسلمين ونظر النصارى إلى عيسى بن مريم مختلفان، إلاّ أنّه كان يريد أن يغري المنصرين لاستثمار أي تشابه يمكن أن يكون مدخلاً للتأثير على المسلمين وتحويلهم الى النصرانية، أو على الأقل القبول ببرامجها التثقيفيّة ومناهجها التعليميّة التي تكون طريقاً لربط المسلمين بالإيديولوجية الاستعمارية لأوربا النصرانية. وعدَّه بعض العرب والمسلمين طابوراً خامساً للاستعمار.[15]
وفاته:
مات في 31 أكتوبر1962م، وكان ماسينيون مستغرقًا في حياته كلها في شخصية الحلاج المتصوف، حتى وصل به الحال في ساعة الموت أن يُردد مثله هاتين الآيتين الكريمتين اللتين طالما رددهما في حياته: قوله تعالى: "لن يجيرني من الله أحد" الجن 22 ، وقوله سبحانه" يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق" الشورى 18. [16]



[1] المستشرقون والتراث ، عبد العظيم محمود الديب ،ص7 ،8 .
[2]   المستشرقون و التراث ،ص 15.
[3] ينظر: موسوعة المستشرقين،عبدالرحمن بدوي، ص 529 ، و: الأعلام للزركلي،،(5/247) ،و: مقال:موقف ماسينيون من الاسلام،عفيف عثمان ،جريدة الحياة.
[4] ينظر: المستشرقون ، العقيقي،(287 ،288) ،و: موسوعة المستشرقين ، عبدالرحمن بدوي(530- 533 )،و: مفتريات وأخطاء دائرة المعارف الاسلامية،دخالد القاسم،(1/152) ، و: مقال :لويس ماسينيون،العليان ، على الرابط http://aboabdullah11.blogspot.com/2011/12/louis-massignon.html  .
[5] المستشرقون، للعقيق،(289،290)
[6] ينظر: المرجع السابق ص291. و: مفتريات وأخطاء دائرة المعارف الاسلامية،دخالد القاسم،(1/154) ، والأعلام للزركلي(5/247)
[7]   مقال سابق: لويس ماسينيون ،العليان.
[8]   مقال سابق : موقف لوي ماسينيون من الاسلام، عفيف عثمان.
[9] مقال سابق: لويس ماسينيون ،العليان.
[10] مقال سابق : موقف لوي ماسينيون من الاسلام، عفيف عثمان.
[11] ينظر: موسوعة المستشرقين، عبد الرحمن بدوي،(530، 531)
[12] ينظر: موسوعة المستشرقين، عبد الرحمن بدوي، (530- 533).
[13] ينظر: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والاسلامية،(1/365)
[14] مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والاسلامية، (1/ 370- 378)
[15] مقال سابق: لويس ماسينيون ، العليان.
[16]   ينظر: موسوعة المستشرقين، عبد الرحمن بدوي، (534- 535).