السبت، 20 ديسمبر 2014

المستشرق: ماسينيون

إشراف : د. خالد القاسم

إعداد: مريم الشايع




المقدمة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :
تزخر المكتبة الاسلامية بآلاف الكتب في شتى المعارف والفنون، وليس الأمر مقتصراً على المؤلفين من المسلمين فقط .. بل زاحمهم في ذلك غيرهم من غير المسلمين عامة والمستشرقين خاصة .. لأهداف متعددة. والدراسة التي بين أيدينا عن شخصية اهتمت بمسألة الانتاج والتأليف  في فنون متعددة وتخصصات عدة من التخصصات الاسلامية..  وان كان اهتمامها الاكبر في مجال دراسة التصوف ، حتى عُد المرجع الأهم في هذا الباب عند الغرب.. إنه المستشرق الفرنسي : لويس ماسينيون.
وحينما نقوم بمثل هذه الدراسة نستطيع أنْ نرى في ضوئها ما يلي:
أولاً: عدد الكتب التي أخرجها المُسْتَشْرِقُونَ بجهودهم العلمية، وتحديد (الكَمِّ) الذي قاموا بخدمته من تراثنا، ويتبع ذلك، وينبني عليه بيان نسبة عملهم إلى مجموع ما تم نشرُهُ، فيتحدَّدُ بالضبط المقدار الذي اسهموا به في نشر تراثنا.
ثانياً: معرفة اتجاهات النشر لدى المُسْتَشْرِقِينَ، بمعنى أنْ نعرف الكتب التي تحظى باهتمامهم وتجذب انتباههم، من أي لون هي، ومن أي فرع من فروع المعرفة، وما قيمتها في هذا الفن، ثم ما علاقتها بما ينشرونه من فنون أخرى.
ثالثاً: درجة الدِقَّةِ والاتقان في هذه الأعمال، بل درجة الصحة والصواب، وماذا فيها من خلل أو زلل نتيجة العجز عن إدراك سِرَّ العربية، وامتلاك ذوقها ، والعجز عن استكناه سِرَّ التراث، واستلهام روحانية الإسلام..[1]
والمطلع على الاتجاه الفكري للمستشرقين:.. لعلّه يدرك أن هذه النتائج ليست في حاجة إلى نظر أو تأمُّل، فهي تنطق باتجاهات القوم في النشر بوضوح، وتكشف عن أهدافهم بجلاء، فالتصوُّف والفلسفة وعلم الكلام –مثلاً- (وهو الاتجاه الأول عندهم) ليعرفوا السلوك، والفكر، والعقيدة للفئة مجال البحث والدراسة، وهم المسلمون.
فهذا الولوع الغريب بدراسة هذه العلوم، ونشر مؤلفاتها، لا تفسير له إلاَّ في ضوء أهدافهم، فهم يتعرَّفُون على هذا اللون من الفكر، ويتَّبعون شطحاته وانحرافاته، كي تقعد بالناس عن الاسلام الحقيقي الصحيح.[2]
*التعريف به:
لويس ماسينيون ، من أكبر مستشرقي فرنسا وأشهرهم ،ولد في 25 يوليو1883م، على ضفاف نهر المارن بضاحية نوجان إحدى ضواحي باريس، وكان أبوه فناناً درس الطب ثم عدل عنه إلى الفن ،واشتهر بفن النحت، وكان لهذا أثر في تنشئة ابنه ، فقد نشأ نشأة عقلية فنية. وبقي تذوق ماسينيون للفن، و الاسلامي منه بخاصة ، من العلامات البارزة في إنتاجه الروحي.. وهو ما نلحظه أيضا في عنايته بالآثار الاسلامية. تعلم العربية والفارسية والتركية والألمانية والإنكليزية . شكَّل الإسلام محورَ حياة المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون ، باحثاً ومحققاً ومدرِّساً ولغوياً وعالمَ اجتماع وموظفاً عمومياً في خدمة دولته ومصالحها .  واستهواه التصوف الاسلامي خاصة ؛ فكتب عنه مؤلفات ومقالات كثيرة وبعض شخصياته.[3]
*حياته العلمية والعملية:
قضى ماسينيون داسته الثانوية في ليسيه لوي لوجران المشهورة في باريس، ثم التحق ب(المدرسة الوطنية الشرقية الحية) وهي التي تخرج فيها أجيال من المستشرقين الفرنسيين والأجانب . خدم في الجيش الفرنسي خمس سنوات خلال الحرب العالمية الأولى. وحصل على البكالوريا في الأدب والفلسفة 1900م، ثم البكالوريا في الرياضيات 1901م.
وبعدها انطلقت رحلات ماسينيون إلى البلاد الإسلامية فسافر في رحلة قصيرة إلى الجزائر عام 1901م، ثم عاد إلى باريس فحصل على ليسانس الآدب الفرنسي، ثم إلى مراكش في أبريل سنة1904 وكتب عنها بحثا صغيراً، ونال به دبلوم الدراسات العليا في السوربون بجامعة باريس بقسم العلوم الدينية على يد أحد المستشرقين ،ثم تابع محاضراته عن دراسة الإسلام من الناحية الاجتماعية.ودرس اللغة العربية في المدرسة الوطنية للغات الحية، غير أن بداية حياته الإستشراقية جاءت باشتراكه في المؤتمر الذي عقد بالجزائر في ابريل 1905م، وهناك تعرف إلى جولدتسيهر ، وأول زياراته للقاهرة كانت 1906م حيث بدأ ابحاثه الأثرية الإسلامية، واهتمامه بالآثار القديمة، جعله يشارك في التنقيب عنها في العراق(1907– 1908م)
حيث أدى ذلك إلى اكتشاف قصر الأخيضر.كما درَّس في الجامعة المصرية القديمة (1913) .وفي 27 مارس 1919م أصبح تحت تصرف وزارة الخارجية الفرنسية بوصفه ضابطاً ملحقاً بمكتب المنتدوب السامي الفرنسي في سوريا وفلسطين وقليقلة، وكان ضمن الجيش الذي دخل القدس 1917م.
وحينما نشبت الحرب العالمية الثانية عاد فوضع نفسه تحت تصرف الجيش الفرنسي، وخَدَم في الأركان العامة برتبة رئيس كتيبة العاملين في قسم ماوراء البحار، ثم معاوناً لوزير الإعلام. وانتخب عضواً في الأكاديمية الإيرانيّة، وبعد أن أطلق الألمان سراحه في فرنسا عاد إلى بلاد الشرق ليلقي محاضراته، وزار أفغانستان، وعيّن عضواً في الأكاديمية الأفغانية، ثم سافر إلى الهند وزار جامعاتها ومعاهدها الإسلامية، كمازار قبر المسيح المزيّف هنالك، والتقى نهرو ومُنع من زيارة غاندي في السجن، ورفض زيارة محمد علي جناح مؤسس باكستان الإسلامية بدعوى أنه انفصالي.‏
وقد كان اهتمامه أولاً بالآثار الإسلامية، ثم دراسة النظم الاجتماعية في البلاد الإسلامية، مروراً بالدراسات الفلسفية والعلمية،ثم دراسة الشيعة بكل تطوراتها وفروعها وبخاصة المغالية منها كالقرامطة والنصيرية والإسماعيلية، حيث كانت تستهويه المذاهب الخفية المستورة والحركات السرية سواءً الروحية منها أو السياسية، وقد زار مشاهد الشيعة كلها جنوبي بغداد، كما زار سلمان باك القرية التي تضم مشهد الصحابيين الجليلين (سلمان الفارسي وحذيفة) فضلاً عن بقايا إيوان كسرى.ولمّا أنشئ المجمع اللغوي بالقاهرة في سنة 1933 عُيّن عضواً عاملاً به حتى 1056 ثم عضواً مراسلاً من سنة 1957م وحتى وفاته.وشارك في مؤتمر المستشرقين الألمان، حيث ألقى بحثاً عن الشّيعةىالمتطرّفين في نهاية القرن الثالث الهجري، كما شارك في المؤتمر العشرين للمستشرقين في بلجيكا.
عين أستاذاً بديلاً في الكوليج دي فرانس من 1919م إلى 1924ملكرسي دراسة الاسلام من الناحية الاجتماعية، ثم أصبح أستاذاً لهذا الكرسي من 1926م حتى 1954م، وعين مديراً للدراسات بالمدرسة العملية للدراسات العليا قسم العلوم الدينية، وظل فيه حتى تقاعد عام 1954م.ولما أنشئ المجمع اللغوي عين عضواً عاملاً فيه حتى 1956م .
وتولى لويس تحرير "مجلة الدراسات الإسلامية"، وأصدربالفرنسية "حوليات العالم الإسلامي" حتى عام 1954م.غير أن كل هذا لم يشغله عن صاحبه الحلاج، بل أن جُل دراساته كانت تصب في رحى روح صاحبه.[4]
*أهم مؤلفاته:
آثاره تربو على 650 بين مصنف ومحقق ومترجم، وبين مقال ومحاضرة وتقريرونقد ومقدمة وسيرة...
منها:
جغرافية المغرب،  وآلام الحلاج وومذهب الحلاجية ، والحلاج والشيطان في نظر الزيدية، والطواسين للحلاج –متضمنة النص العربي والترجمة الفارسيةعن مخطوطات استانبول ولندن-  وتاريخ تأليف إخوان الصفا( مقال في مجلة الاسلام) ، وأصول عقيدة الوهابية، وفهرس بمصنفاتها (نشر في مجلة العالم الاسلامي)ووثائق عن المطالب الاسلامية، أساليب تطبيق الفنون لدى شعوب الاسلام، وترجمت الى التركيةوأثر الاسلام في تأسيس المصارف اليهودية وحركتها في العصر الوسيط(نشر في مجلة الدراسات الشرقية) ، وبحوث عن الشيعة المتطرفة في بغداد في أواخر القرن الثالث الهجري (نشرت في المجلة الشرقية الالمانية) ، وأهل الكهف( قدمه في مؤتمر المستشرقين) [5]
وفي دائرة المعارف الاسلامية حرر- في الطبعة الأولى منها – (33) مادة عن التصوف والفرق الباطنية، كالقرامطة، والنصيرية، والزندقة، والزهد، و..غيرها[6].


*أفكاره ومعتقداته:
من الأفكار المهمة التي آمن بها ماسينيون كانت فكرة"البَدَليّة": وتفهم كشفاعة الأنبياء والمُخلصين، وطبّق فكرة البدليةعلى الحلاج، حيث يرى أن حياة الحلاج وشفاعة موته من أجل أمته تمتد إلى ما بعد إعدامه، فهو يرى أن موت الحلاج نوع من الألم البطولي تحمله من أجل الآخرين،منتمياً بذلك إلى سلسلة البدائل أو الشواهد، فالحلاج بوصفه أحد البدائل قد قبل ظلم مجتمعه وطلب الاستشهاد، وصلب مرفوضاً ومنبوذاً ومهمشاً، لكنه عبر العصور، رويداً رويداً، تقبّله الوعي الأخلاقي للعالم الإسلامي وها هو يقوم بعمله البَدَلي في حياة الناس بعد قرون طويلة، وهذا فيه شبه لعقيدة النصارى في نبي الله عيسى u، وتحمله لأخطاء بني آدم عبر الفداء، وكأنه أراد تطبيق هذه العقيدة على المسلمين من مدخل التصوف.
أراد ماسينيون هداية قلوب المسلمين الى روح الكنيسة، فمقصد البدلية «إظهار» المسيح في الإسلام،ومنذ العام 1953م، شاركت لجنة فرنسا–إسلام التي يرأسها في صوم اليوم الأخير من رمضان، باعتباره ليلة القدر، ومنذ العام 1956م كانت الفاتحة تُقرأ في افتتاح الجلسة الشهرية للبدلية، وفي العام 1959م اتهم الأزهر دار السلام التي يديرها ماسينيون ومقر البدلية بالتبشير المموه، فرد برسالة دفاع.
أما بالنسبة للإسلام فكان ماسينيون يعتقد أنه تعبير حقيقي عن الإيمان التوحيدي المتحدر من إبراهيم عن طريق إسماعيل، وأن له رسالة روحية إيجابية بتأنيب عبدة الأوثان وإعطاء المسيحيين نموذجاً للإيمان والاستسلام.
وكان لماسينيون موقف من وحدة الأديان، حيث اهتم بالأماكن التي يستطيع أن يشترك فيها المسيحيون والمسلمون في الصلاة كالقدس ومقام إبراهيم في الجليل ومزار "أهل الكهف السبعة في أفسس".[7]
وأقر ماسينيون أن الإسلام منحه ما كرس نفسه له، أي"الرحمة"الرأفة و"البدلية"أشخاص عاديون عاميون يتبعون قانوناً رهبانياً يؤدون مجموعة من الصلوات هدفها جعل المسلمين يعترفون بالمسيح من خلال إحلال أنفسهم مكانهم، وفكرة"البدلية"تستحق وقفة ويجب تمييزها عن"الأبدال"عند الأولياء والمتصوفة المسلمين، إذ إن ماسينيون رغم افتتانه بالإسلام، الإ أنه عد عقيدته فقيرة، ورأى أنه يفصل بين الإنسان وربه ويرفض الاتحاد بين الخالق والمخلوق، فأراد إكمال ما اعتبره"غير ناجز"في الإسلام، من خلال شهادة تنقل اليه ما ينقص:"الإيمان بالتثليث"، وملاقاة الإشارات القرآنية حول السيدة مريم العذراء، وبعبارته جعل الإسلام:"يعيد الاكتشاف، في داخله وفي قلبه، للوجه المقدس للمسيح، عيسى ابن مريم"شرح البدلية، 1947. أراد ماسينيون من خلال الصلوات، هداية قلوب المسلمين الى روح الكنيسة، فمقصد البدلية"إظهار"المسيح في الإسلام. كما حضه الإسلام على إيلاء العناية لمفهوم القداسة.. ولهذا القصد انصرف الى دراسة المظاهر الروحانية عندنا، ولا سيما التصوف، وجهد في إثبات أصالته أصول قرآنية حتى من دون المؤثرات الأجنبية. [8]
*موقفه من التصوف :
يذكر ماسينيون أنه قد تعرض للتوقيف من قبل السلطات العثمانية في أيار 1908م واتهم بالجاسوسية وسجن وهدّد بالموت، وأفرج عنه بفضل عائلة من العلماء العرب المسلمين في بغداد توسطت له، وقرّر أن يلتزم بدراسة الإسلام عميقاًوجدياً.وفي فرنسا اعتقله الألمان مدةً ثم أطلق سراحه. [9]
وقد استرعى الإسلام انتباهه في بلاد ما بين النهرين عام 1908 أثناء ما أطلق عليه هو "زيارات الخارج"، حين اهتم بالحلاج الصوفي واكتشف قبر سلمان الفارسي عام 1927، كما حضَّر دروساً دينية في جامعة الأزهر في القاهرة في الأعوام 1910-1912 وقت وجوده هناك. وعاين هذا الدين حين أنقذته مادياً ومعنوياً عائلة الألوسي في بغداد.[10]
أما عن الشخصية التي استحوذت كثير من كتاباته ودراسته وهي ( الحلاج) فقد ابتدأت علاقته به: في مارس عام 1907م، حينما قرأ ماسينيون أشعاراً لفريد الدين العطار –الشعر الفارسي الصوفي- تدور حول مصرع الحلاج فلفت هذا نظر ماسينيون ، وأُعجب به إعجاباً جعله يكرس دراساته له ..وقد كانت اول دراسة عنه بحثاً بعنوان ( عذاب الحلاج والطريقة الحلاجية).. تلاه آخر .. وقد كان أول بحث كبير هو نشره لكتاب(الطواسين) عام 1913 النص مع الترجمة الفارسية.، كما عهد إليه بكتابة مادة (حلاج) في دائرة المعارف الاسلامية.[11]
*منهجه في دراسة التصوف:
دراسته في التصوف انصبت على الحلاج بالدرجة الأولى ..فقد كان يجمع النصوص ، ويحقق كثيراً من أخباره ، ويعنى بكل مايتصل بنشأة التصوف الاسلامي قبل الحلاج ، ويوسع قاعدة البحث حتى تشمل كل الصوفية السابقين عليه. وقد قرر أن يجعل الحلاج موضوع رسالته ... وقد فرغ من كتابة الرسالة الرئيسية بعنوان : ( عذاب الحلاج ، شهيد الصوفية في الاسلام ) ونوقشت الرسالتان معا 24 مايو  عام 1922م واختير هذا التاريخ ليوافق مرور ألف عام على صلب الحلاج!
وكانت رسالته الأولى حدثاً ضخماً في تاريخ دراسة التصوف الاسلامي، وتاريخ الدراسات الاسلامية بعامة. فهي دراسة حافلة لكل التيارات الصوفية والكلامية والفلسفية والدينية التي أثرت ومهدت لظهوره وعاصرت رسالته الصوفية عن الحلاج.
أما الرسالة الثانية فبعنوان  : ( بحث في نشأة المصطلح الفني الاسلامي)  استعرض نشاة التصوف الاسلامي منذ عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – حتى الحلاج . ودرس المصطلحات الكبرى التي ظهرت في تلك الفترة. هذا وقد زعم ماسينيون أن التصوف قد نشأ عن أصول إسلامية خالصة مستمدة من القرآن وسنة الرسول وحياته وأصحابه ذوي النزعات الزاهدة- على حد قوله-  .
وبعد هاتين الرسالتين استمر نشاطه العلمي محصوراً في المقالات والابحاث الصغيرة، ..ح وفي عام 1929م اصدر كتابا كبيرا يكاد يُلحق برسالتيه ، لأنه يتضمن النصوص العربية غير المنشورة والتي استعان بها في رسالتيه . وهذا الكتاب اسمه( مجموع نصوص غير منشورة تتعلق بتاريخ التصوف في بلاد الاسلام).
وفي عام 1931 نشر (ديوان الحلاج) مع ترجمة فرنسية . وعكف على أخباره ، فأخرج هو ومؤلف آخر كتاب (أخبار الحلاج) مع ترجمة فرنسية أيضا.  ثم كتب عن دراسة عن أسانيد أخبار الحلاج! وبحثا عن (حياة الحلاج بعد وفاته )، و( المنحى الشخصي لحياة الحلاج) [12]
ولقد تعرض ماسينيون للنقد من جانب العلماء المسلمين، لأنه ابتدع (خرافة الحلاج) ولأنه حول الحاوي الى شهيد.، ومهما بلغت درجة اختلافنا مع ماسينيون في تاريخية هذه الشخصية..فإن كتابه يبرز باعتباره دراسة مثالية للصوفية، ونظراً لما يتميز به من صرامة عريقة من الناحية المنهجية واستنفاداً لببليوغرافيا هائلة ودراسة وتحليل عميق للمصادر التاريخية.[13]
*منهجه في كتابه : ( عاطفة الحلاج الشهيد الدولي في الإسلام) :
كانت النية تتجه إلى أن يكون هذا الكتاب دراسة لحياة الحلاج، بيد أن هذا الكتاب قد أشاد ببعض الجوانب الصوفية الاسلامية وأرسى أسساً للجوانب الأخرى التي تتلوها. ويبدو لنا مدخل ماسينيون في المعالجة مدخلاً شاملاً متخصصاً، فكلا المدخلين مرتبطان ببعضهما بصورة معقدة. وهذه الطريقة المزدوجة التي استخدمها يمكننا تفسيرها اذا نظرنا الى طبيعة الموضوع الذي عالجه.
فكتابات الحلاج محدودة جداً. كما أثرت طبيعة المصادر التي استقى منها ماسينيون معلوماته تأثيرا واضحا على معالجته.. لكن هذا دفع به الى توسيع رقعة طريقة المعالجة مما يضفي على كتابه أهمية كبيرة أكبر من أن يكون مجرد سيرة حياة موجزة.. كذلك ربما كانت تلك الجوانب التي تتصل بخلفية الحلاج التاريخية وبالصوفية أهم بكثير مما كتبه عن الحلاج نفسه.  كذلك الجهد الذي بذله في دراسة البنية الاجتماعية له وأساتذته ورحلاته. ويبين كذلك أثر الصوفية على روح الحلاج  من خلال ما لخصه لنا ماسينيون من الاحوال الأساسية التي يتكون منها مذهب التدرج في المعرفة  عندهم ، وهي نور العقل ونور الايمان ونور الذات المقدسة.
ويتساءل ماسينيون عن الجهد التفسي الذي تعرض له الحلاج عندما خضع لمثل تلك المذاهب الصوفية القاسية حيث التركيز على القدرية  الى حد يصل الى انقاص حقيقة الروح  في نهاية المر ، حتى تصبح عبارة عن الفكرة المقدسة. ويرى أن هذه النصوص ستسمح لنا أن ندرك حالة ضمير الحلاج وهي نقطة البدء في حياته كلها اذ جاء تكوينه بالحياة الجمالية التي عاشها والتي تغذ من مكة ومن أزمة الضمير ومن التخيل الصوفي. ونجد أن انحراف الحلاج عن منهج أهل السنة يتمثل في إضفائه على الحديث صفة أنه فوق مستوى البشر وشبه إلهي!
ويكز ماسينيون على النواحي الصوفية للحلاج باعتبارها تسود أسلوب حياته، ومذهبه وتعاليمه. كماأن الصرامة التي اتسم بها قانونه الأخلاقي يضفي على نظريته صفة القوة. وباعتبار ماسينيون كاثوليكياً ربط تفسيره الذاتي لصلب المسيح تضحية منه في سبيل خلاص البشرية ، بحياة الزهد والتقشف التي عاشها الحلاج والتي ادعى أنها تضحية لله وقربان له.
ومما ورد من حكايات تفسر كرامات الحلاج المزعومة مايفسر لنا لماذا خشي العباسيون شعبيته المتزايدة باعتبارها قوة سياسية تهددهم .
وبالامكان ان نقول – بالرغم من اتخاذ ماسينيون موقفا محدداً إلا أنه قدم مادة كافية من خلال عمله للقارئ ليتبنى موقفه الخاص به تجاه الحلاج ومحاكمته.
ومن الناحية المنهجية نجد أن طريقة المعالجة الشاملة وجدت مايسوغها في البحث العميق الذي أجري لتأكيد كل فصل من الفصول بالدقة اللازمة لأي عمل متخصص . وبرغم ماأسداه هذا الكتاب إلى دراسة الصوفية من إسهام كبير ، نجد القارئ لا يقتنع -بالضرورة – بالحلاج ! سواء باعتباره مفكراً أو حتى صوفياً.[14]
*الموقف من ماسينيون :
ماسينيون هو ابن مجتمعه الفرنسي، تلك الدولة التي سعت في تشويه الفكر الإسلامي لإزالة العقبات عن حركتها الاستعمارية للشرق الإسلامي، ولهذا اشتهرت بأنّها من أبرز دول أوربا الغربية في مجال إعداد جيش من المنصرين والمستشرقين، مدرّبين على أحدث وسائل التنصير، انتشروا في إفريقيا ودول الشرق الأوسط وهذا هو الذي دفع رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق محمد كرد علي للقول: "إننا نرى من واجبنا أن يشكّ كل عربي وكلّ مسلم في أكثر ما يصدر من الأحكام من الفرنسيين على الإسلام والمسلمين، وذلك لأنّه ثبت أن من الفرنسيين من لا ينظرون إلى كل أمر إلاّ بمنظار الاستعمار". وكان ارتباطه بالاستعمار الفرنسي للشرق العربي وكذلك حملات التطهير للبسطاء والأميين مثار جدل واستفهام، رغم ما يُحكى عنه من موقفه اللاعنفي "الغانديّ"، وكيف أنه يوسع تضامنه مع البشر حتى أقاصي الأرض.
ويعد ماسينيون قبل كل شيء رجل دين كاثوليكي يحاول عن طريق دراساته للدين الإسلاميّ أن يقدّم خدمةً للكنيسة الكاثوليكية.ويؤكّد مالك بن نبي هذه الحقيقة في دور ماسينيون قائلاً: إنّ ماسينيون قد تفرّغ آخر حياته للتنصير، وقد مدّ وزارة الخارجية الفرنسية بالمعلومات والتوصيات حول البلاد الإسلامية، وتهيئة العملاء والكتّاب. وقد تأثّر ماسينيون تأثراً كبيراً بالمستشرق اليهودي النمساوي جولدتسيهر الذي حاول أن يثبت أنّ الحديث النبوي كلّه موضوع في عهود لاحقة كما في كتابه دراسات إسلامية، واعتبر الإسلام نسخة مشوهة للديانة اليهودية والمسيحية. وبالتالي فإنّ ماسينيون أخذ كثيراً من تعاليم هذا المستشرق اليهودي، وبدت واضحة على كتاباته وشروحه التي نشرها في أكثر من كتاب، فمثلاً كان ماسينيون يركز على المعارف الفلسفية والصوفية الشاذّة والسيّئة.
إنّ ماسينيون قد ووظّف جُلّ معارفه الاستشراقية في خدمة الأهداف الاستعمارية وفي مقدّمتها التبشير للنصرانية، ويتّضح هذا في أكثر من دليل، منها زعمه أنّ المسلمين يعتقدون في شأن عيسى بن مريم على ما جاء في القرآن، ومن أجل ذلك يرجو أن توجّه الجهود إلى جعلهم يعتقدون بعيسى بن مريم نفسه، ولكن باسمه المسيحي، ولا شكّ في أنّ ماسينيون يدرك جيداً أن نظر المسلمين ونظر النصارى إلى عيسى بن مريم مختلفان، إلاّ أنّه كان يريد أن يغري المنصرين لاستثمار أي تشابه يمكن أن يكون مدخلاً للتأثير على المسلمين وتحويلهم الى النصرانية، أو على الأقل القبول ببرامجها التثقيفيّة ومناهجها التعليميّة التي تكون طريقاً لربط المسلمين بالإيديولوجية الاستعمارية لأوربا النصرانية. وعدَّه بعض العرب والمسلمين طابوراً خامساً للاستعمار.[15]
وفاته:
مات في 31 أكتوبر1962م، وكان ماسينيون مستغرقًا في حياته كلها في شخصية الحلاج المتصوف، حتى وصل به الحال في ساعة الموت أن يُردد مثله هاتين الآيتين الكريمتين اللتين طالما رددهما في حياته: قوله تعالى: "لن يجيرني من الله أحد" الجن 22 ، وقوله سبحانه" يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق" الشورى 18. [16]



[1] المستشرقون والتراث ، عبد العظيم محمود الديب ،ص7 ،8 .
[2]   المستشرقون و التراث ،ص 15.
[3] ينظر: موسوعة المستشرقين،عبدالرحمن بدوي، ص 529 ، و: الأعلام للزركلي،،(5/247) ،و: مقال:موقف ماسينيون من الاسلام،عفيف عثمان ،جريدة الحياة.
[4] ينظر: المستشرقون ، العقيقي،(287 ،288) ،و: موسوعة المستشرقين ، عبدالرحمن بدوي(530- 533 )،و: مفتريات وأخطاء دائرة المعارف الاسلامية،دخالد القاسم،(1/152) ، و: مقال :لويس ماسينيون،العليان ، على الرابط http://aboabdullah11.blogspot.com/2011/12/louis-massignon.html  .
[5] المستشرقون، للعقيق،(289،290)
[6] ينظر: المرجع السابق ص291. و: مفتريات وأخطاء دائرة المعارف الاسلامية،دخالد القاسم،(1/154) ، والأعلام للزركلي(5/247)
[7]   مقال سابق: لويس ماسينيون ،العليان.
[8]   مقال سابق : موقف لوي ماسينيون من الاسلام، عفيف عثمان.
[9] مقال سابق: لويس ماسينيون ،العليان.
[10] مقال سابق : موقف لوي ماسينيون من الاسلام، عفيف عثمان.
[11] ينظر: موسوعة المستشرقين، عبد الرحمن بدوي،(530، 531)
[12] ينظر: موسوعة المستشرقين، عبد الرحمن بدوي، (530- 533).
[13] ينظر: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والاسلامية،(1/365)
[14] مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والاسلامية، (1/ 370- 378)
[15] مقال سابق: لويس ماسينيون ، العليان.
[16]   ينظر: موسوعة المستشرقين، عبد الرحمن بدوي، (534- 535).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق